التقديس الجماعي: كيف نصنع الأساطير من الغياب؟
في زمنٍ لم تكن فيه كل موهبة "خالدة"، ولا كل فنان "أيقونة"، عاش فنانان. رحل الأول صغيرًا، فصار رمزًا. أما الآخر، فقد امتد به العمر، وفقد بريقه.. إذًا؛ كيف تحوّل الرحيل المبكر إلى تأشيرة خلود؟

كان يا ما كان، في زمنٍ لم تكن فيه كل موهبة "خالدة"، ولا كل فنان "أيقونة"، عاش فنانان.
رحل الأول صغيرًا، فصار رمزًا.
أما الآخر، فقد امتد به العمر، تنقّل بين المشاريع التجارية والتوجهات الجديدة… حتى أصبح "عاديًا".
العظمة؟ ليست دائمًا في الموهبة. أحيانًا، كلّ الحكاية تتعلق بالتوقيت.

لماذا يبدو الماضي دائمًا أصدق؟
علاقتنا مع الماضي غريبة. نسمع صوتًا من "الزمن الجميل"، فنشعر وكأن اللغة فيه أنقى، والأحاسيس أصدق. نُشاهد مشهدًا قديمًا، فنراه دافئًا، وكأنه ينتمي لنا أكثر من مشاهد اليوم. ربما هو الحنين، وربما هو ذلك الظن المستمر بأن كل ما لم نعشه… كان أجمل. صرنا نُراهن على الماضي حتى في الإبداع.
فيلمٌ متوسط؟ أضف إليه صوت أم كلثوم في الخلفية، و"تأثّر الجمهور" مضمون. لكن الحقيقة هذا التأثّر لا علاقة له بالفيلم، بل بعلاقتنا الشخصية مع الست، التي بُنيت خارج النص، والمشهد، والسيناريو.

حين يوقف الموت الزمن عند الذروة
دائمًا صوت أم كلثوم. دائمًا عباقرة زمانهم وزمان غيرهم. لكن، في هذا التقديس الجماعي، تبرز ظاهرة تستحق التأمل:
لماذا يبدو الفنانون الراحلون مبكرًا وكأنهم أكثر عبقرية من غيرهم؟ لماذا نرفع صورهم، ونترك من ما زال على قيد الحياة يواجه "الزمن الحقيقي"؟
هل لأن الموت يجمّد الصورة في لحظة المجد، ويمنعنا من رؤية الانطفاء؟ أم لأننا نحب أن نحكي عن "من لم يكملوا الرحلة"، ونمنحهم نهاية باهرة… لم يعيشوها أصلًا؟
منذ متى صار
الموتشهادة عبقرية؟ كيف تحوّل الرحيل المبكر إلى تأشيرة خلود؟ ولماذا لا يُمنح الفنان وسام الإبداع إلا إذا أصبح اسمه نغمة حزينة في ذكرى سنوية؟
خذ مثلًا: هيث ليدجر ممثل موهوب، نعم. لكن قبل وفاته، لم يكن يُعامل كأيقونة، قدّم أدوارًا جيدة وأخرى عادية ثم جاء دور "الجوكر" في The Dark Knight، فكانت لحظة مذهلة!
لكن… لو عاش؟ هل كنا سنراه بعد سنوات في أدوار متواضعة، أو في أفلام منسية؟ الموت أوقف الزمن عند ذروة المجد، ومنحه قدسية لم تُمنح لأقرانه.
طلال مداح، رحمه الله، الفنان الذي هزمته الأوتار على المسرح. هل كان عبقريًا؟ بلا شك. لكن لو امتد به العمر، واشتدت موجات التجديد، هل كان سيظل راسخًا كما هو اليوم؟
وماذا عن "ذكرى"؟ صوت قوي، انكسر فجأة برصاصة، كم صوتًا جاء بعدها وتجاوزها أداءً وإحساسًا؟ لكن المأساة لا تُهزم بسهولة… فتظل هي "ذكرى"، وتُنسى الأخريات.

الحنين لا يكتفي بالأشخاص… بل يقدّس كل شيء
أسطورة الزمن الجميل ليست عن الأفراد فقط، بل تمتد للأعمال أيضًا نُقدّس الأفلام القديمة، نُعيد إنتاج المسلسلات، ونُطرب لإعادة توزيع الأغاني. لا لأن الجديد رديء، بل لأننا نبحث في الماضي عن شعور قديم، عن نسخة محسّنة من الحاضر. صناعة السينما اليوم قائمة على remakes (إعادة الإنتاج) وreboots (إعادة توزيع)، في الموسيقى لا ينجح الفنان الواعد إلا إذا أعاد غناء القديم، ولا يجرؤ التلفزيون على تحدي الجمهور واختراع شعور جديد فيختار الأضمن أن يعيد برامجه بحلّة جديدة.
كأن الذائقة صارت تخاف المغامرة، وتلجأ للحنين كضمان.
في النهاية، الأساطير لا تصنع نفسها. نحن من يصنعها، نحن من يقرّر من يستحق البقاء في الذاكرة، ومن لا. ليس لأن الماضي كان أجمل، بل لأننا، في كثير من الأحيان… نرتاح فيه أكثر.

نشرة لا يُعرف لها حد ولا يُقيدها قيد -تقريبًا-